إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
تعريف بالشيخ:
عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن باز ولد في ذي الحجة سنة 1330هـ بمدينة الرياض،كان بصيرا ثم أصابه مرض في عينيه عام 1346هـ وضعف بصره ثم فقده عام 1350هـ،حفظ القرآن الكريم قبل سن البلوغ ثم جد في طلب العلم على العلماء في الرياض ولما برز في العلوم الشرعية واللغة عين في القضاء عام 1350هـ ،لازم البحث والتدريس ليل نهار ولم تشغله المناصب عن ذلك مما جعله يزداد بصيرة ورسوخا في كثير من العلوم،توفي رحمه الله قبيل فجر الخميس 27/1/1420هـ.
نشأته :
نشأ سماحة الشيخ عبد العزيز في بيئة عطرة بأنفاس العلم والهدى والصلاح، بعيدة كل البعد عن مظاهر الدنيا ومفاتنها، وحضاراتها المزيفة، إذ الرياض كانت في ذلك الوقت بلدة علم وهدى فيها كبار العلماء، وأئمة الدين، من أئمة هذه الدعوة المباركة التي قامت على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأعني بها دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وفي بيئة غلب عليها الأمن والاستقرار وراحة البال، بعد أن استعاد الملك عبد العزيز - رحمه الله - الرياض ووطد فيها الحكم العادل المبني على الشرعة الإسلامية السمحة بعد أن كانت الرياض تعيش في فوضى لا نهاية لها، واضطراب بين حكامها ومحكوميها.
ففي هذه البيئة العلمية نشأ سماحته - حفظه الله - ولا شك ولا ريب أن القرآن العظيم كان ولا يزال - ولله الحمد والمنة - هو النور الذي يضيء حياته، وهو عنوان الفوز والفلاح فبالقرآن الكريم بدأ الشيخ دراسته - كما هي عادة علماء السلف - رحمهم الله - إذ يجعلون القرآن الكريم أول المصادر العلمية - فيحفظونه ويتدبرونه أشد التدبر، ويعون أحكامه وتفاسيره، ومن ثمَّ ينطلقون إلى العلوم الشرعية الأخرى، فحفظ الشيخ القرآن الكريم عن ظهر قلب قبل أن يبدأ مرحلة البلوغ، فوعاه وحفظه تمام الحفظ، وأتقن سوره وآياته أشد الإتقان، ثم بعد حفظه لكتاب الله، ابتدأ سماحته في طلب العلم على يد العلماء بجد وجلد وطول نفس وصبر.
وإن الجدير بالذكر والتنويه في أمر نشأته، أن لوالدته - رحمها الله - أثرا بالغا، ودورا بارزا في اتجاهه للعلم الشرعي وطلبه والمثابرة عليه، فكانت تحثه وتشد من أزره، وتحضه على الاستمرار في طلب العلم والسعي وراءه بكل جد واجتهاد كما ذكر ذلك سماحته في محاضرته النافعة - رحلتي مع الكتاب - وهي رحلة ممتعة ذكر فيها الشيخ في نهاية المحاضرة، وبالخصوص في باب الأسئلة بعض الجوانب المضيئة من حياته - فاستمع إلى تلك المحاضرة غير مأمور -.
ولقد كان سماحة الشيخ / عبد العزيز - حفظه الله - مبصرا في أول حياته، وشاء الله لحكمة بالغة أرادها أن يضعف بصره في عام 1346 هـ إثر مرض أصيب به في عينيه ثم ذهب جميع بصره في عام 1350 هـ، وعمره قريب من العشرين عاما؛ ولكن ذلك لم يثنه عن طلب العلم، أو يقلل من همته وعزيمته بل استمر في طلب العلم جادا مجدا في ذلك، ملازما لصفوة فاضلة من العلماء الربانيين، والفقهاء الصالحين، فاستفاد منهم أشد الاستفادة، وأثّروا عليه في بداية حياته العلمية، بالرأي السديد، والعلم النافع، والحرص على معالي الأمور، والنشأة الفاضلة، والأخلاق الكريمة، والتربية الحميدة، مما كان له أعظم الأثر، وأكبر النفع في استمراره.
على تلك النشأة الصالحة، التي تغمرها العاطفة الدينية الجياشة، وتوثق عراها حسن المعتقد، وسلامة الفطرة، وحسن الخلق، والبعد عن سيئ العقائد والأخلاق المرذولة ومما ينبغي أن يعلم أن سماحة الشيخ عبد العزيز - حفظه الله- قد استفاد من فقده لبصره فوائد عدة نذكر على سبيل المثال منها لا الحصر أربعة أمور: -
الأمر الأول : حسن الثواب، وعظيم الأجر من الله سبحانه وتعالى، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه في حديث قدسي أن الله تعالى يقول: إذا ابتليت عبدي بفقد حبيبتيه عوضتهما الجنة البخاري ( 5653 ).
الأمر الثاني: قوة الذاكرة، والذكاء المفرط: فالشيخ - رعاه الله - حافظ العصر في علم الحديث فإذا سألته عن حديث من الكتب الستة، أو غيرها كمسند الإمام أحمد والكتب الأخرى تجده في غالب أمره مستحضرا للحديث سندا ومتنا، ومن تكلم فيه، ورجاله وشرحه.
الأمر الثالث: إغفال مباهج الحياة، وفتنة الدنيا وزينتها، فالشيخ - أعانه الله - متزهد فيها أشد الزهد، وتورع عنها، ووجه قلبه إلى الدار الآخرة، وإلى التواضع والتذلل لله سبحانه وتعالى.
الأمر الرابع: استفاد من مركب النقص بالعينين، إذ ألح على نفسه وحطمها بالجد والمثابرة حتى أصبح من العلماء الكبار، المشار إليهم بسعة العلم، وإدراك الفهم، وقوة الاستدلال وقد أبدله الله عن نور عينيه نورا في القلب، وحبا للعلم، وسلوكا للسنة، وسيرا على المحجة، وذكاء في الفؤاد.
نظام سماحة الشيخ السنوي:
لما كان سماحة الشيخ في الدلم إبان عمله هناك في القضاء - كان يأتي للرياض، وكانت الدلم مقر إقامته.
إلى أن استقر في الرياض عام 1371هـ 1381هـ.
ولما كان في الجامعة الإسلامية في عام 1381هـ إلى 1395هـ كان يقيم في المدينة، ويتردد كثيراً على الرياض وكان يستأنف الدروس والمحاضرات فور وصوله الرياض.
كما كان - أيضاً - يتردد على الرياض للتدريس في المعهد العالي للقضاء.
وإليك هذا الكتاب الذي يؤكد أنه كان يأتي للرياض للغرض المذكور، بناء على أمر سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله .
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضيلة نائب المفتي لشؤون الكليات والمعاهد العلمية وفقه الله آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
سلمكم الله بناء على أمر سماحة رئيس الكليات والمعاهد البرقي بتعميدي بالتوجه إلى الرياض للقيام بالتدريس في المعهد العالي للقضاء توجهت إلى الرياض في 3/9/1386هـ، واستأجرنا سيارة ابتداء من 4/9 المذكور إلى 1/11/1386هـ بأجرة يومية قدرها أربعون ريالاً.
وجميع الأيام المشار إليها 57 يوماً.
فأرجو من فضيلتكم تعميد الجهة المختصة بصرفها بيد صاحب السيارة فهد بن حمدان، أثابكم الله وتولاكم والسلام
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
7/11/1386هـ
وبعد أن انتقل إلى رئاسة الإفتاء والدعوة والإرشاد في نهاية عام 1395هـ استقر في الرياض، وصار يقضي أشهر الصيف الأربعة في الطائف؛ حيث تنتقل أعمال الرئاسة إلى هناك، ثم يعود بعد ذلك إلى الرياض.
وكان يمضي خمسة عشر يوماً إلى عشرين يوماً في مكة المكرمة في شهر رجب أو شعبان؛ حيث تنعقد مجالس الرابطة أو غيرها في ذلك الوقت.
وفي اليوم الثامن عشر أو التاسع عشر من شهر رمضان يتوجه إلى مكة المكرمة، ويمكث فيها إلى الثامن والعشرين من رمضان ثم يعود إلى الرياض.
وفي الخامس والعشرين من ذي القعدة يتوجه إلى مكة ويستمر فيها إلى نهاية شهر ذي الحجة تقريباً، حيث يؤدي فريضة الحج، وينجز كثيراً من الأعمال هناك، سواء الرسمية منها أو غير الرسمية.
ومما كان يقوم به هناك أنه كان ينظر في حاجات الفقراء والمساكين، والمحتاجين المقيمين في مكة.
كما كان رحمه الله يلقي الدروس في مسجده، وذلك بعد العصر، وقبل العشاء، وبعد صلاة الفجر أحياناً.
كما كان يلقي المحاضرات في دار الحديث الخيرية، وفي نادي مكة الأدبي، ويلقي في جدة بجامع الملك سعود، أو جامع الأمير متعب.
كما كان يلتقي أهل العلم والدعاة هناك، ويجيب على إشكالاتهم وأسئلتهم، ويحثهم على بذل المزيد من الجهود.
أما بقية أيام السنة فيكون في الرياض؛ فهذا نظامه السنوي، منذ أن عاد إلى الرياض من المدينة.
سماحة الشيخ في يوم الجمعة :
يبدأ نظامه يوم الجمعة بعد صلاة الفجر؛ حيث يجلس لتقرأ عليه الفتاوى وغيرها.
ويتولى القراءة عليه يوم الجمعة في سنواته الأخيرة معالي الدكتور محمد بن سعد الشويعر.
ويجلس ما يقارب الساعتين ، ثم يدخل منزله؛ لأخذ بعض الراحة ، وتناول طعام الإفطار.
وفي الساعة العاشرة والنصف تقريباً يخرج متطيباً متجملاً ، فيتجه إلى الجامع ، وإذا وصل صلى ست ركعات ركعتين ركعتين ، يفصل بينهما بالتسليم ، ويطيل فيهما كثيراً.
ثم يقرأ ما تيسر من القرآن ، ويستمع الخطبة ، ويصلي الجمعة ، ويتنفل بعدها أربع ركعات يسلم من كل ركعتين.
وإذا عاد إلى بيته وجد الجموع الغفيرة بانتظاره ، وبعد السلام عليهم يبدأ درسه الأسبوعي كل جمعة في تفسير ابن كثير ، فَيُقْرَأ عليه حتى الساعة الثانية والربع.
وبعد أن يقرأ عليه ما تيسر ، ويقوم بالتعليق والشرح والإجابة على الأسئلة الموجهة إليه يقدم طعام الغداء ، فيتقدم إلىه سماحته مع الناس الذين يحيطون به ، ويسألونه ويعرضون عليه حاجاتهم.
وعدد الصحون التي تقدم يوم الجمعة من ثمانية إلى عشرة صحون كبيرة.
ويستدير على الصحن ما بين العشرة إلى الخمسة عشر رجلاً.
وفي بعض الأحيان لا يتسع لبعضهم المكان ، فينتظرون حتى ينتهي الفوج الأول ، فيأتي مَنْ بعدهم.
وبعد أن ينتهي من الطعام يتوضأ لصلاة العصر ، ويذهب إلى المسجد؛ لأداء الصلاة.
وبعد الصلاة يقرأ إمام المسجد بعض الأحاديث ، ويقوم سماحته بشرحها ، ثم يجيب على ما تيسر من الأسئلة.
ثم يدخل منزله ، ويأخذ قسطاً من الراحة ، وقبل المغرب بعشر دقائق يتجه إلى المسجد بسكينة ووقار ، ويكثر من التسبيح والتحميد ، والتهليل ، والصلاة على النبي"وبعد المغرب يجلس للناس كعادته ، وكذلك بعد العشاء ، وقد يكون لديه ضيوف ، أو موعد خارج المنزل ، أو اجتماع داخل المنزل أو خارجه ، وهكذا.
ومما يحسن ذكره في هذا الصدد أن سماحة الشيخ يرى أن ليلة الجمعة ، وعصر الجمعة مثل بقية الأيام في إلقاء الدروس ، وقراءة بعض الأحاديث ، خلافاً لما يراه بعض الناس ، حيث يتركون الدروس ، والتحديث ليلة الجمعة ، أو بعد صلاة العصر من يوم الجمعة.
كلمات مشهورة:
هذه بعض الكلمات التي تتكرر على لسان سماحته - رعاه الله - وأكثرها مما لاحظته أثناء مجالستي له في دروسه أو في مكتبه أو في منزله العامر ، وأغلبها تدور على أطيب الكلام وأحسنه ، لأنها حتى في حالة الغضب مشتملة على تعظيم الله وتنزيهه ، فهاك بعضا منها :
1- سبحان الله : يقولها خاصة حين يسأله بعض الطلبة عن حكم واضح من أحكام الشريعة .
2- سبح : يقولها إذا غضب من السائل أو المتكلم ، أو لمن يريد قطع الكلام عليه ، أو لمن يريد قطع فكر الشيخ في الإملاء .
3- جعلنا الله وإياكم من أنصار الحق والهدى : يذيلها الشيخ في رسائله للعلماء وطلبة العلم .
4- فيا محب وصلتني رسالتكم وصلكم الله بهداه : يقدمها الشيخ في أول رسائله المردودة على طلاب العلم والعلماء .
5- كتب الله لكم سعيكم وضاعف مثوبتكم : يختم بها رسائله في الشفاعة .
6- يسر الله أمرك وأمر كل مسلم ومسلمة : لمن كان عليه دين ولم يثبته وطلب الشيخ منه الإثبات .
7- أسأل الله أن يعطيك خيرا منها ، ويعطيها خيرا منك ، ثم يستدل بالآية الكريمة : وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا يقولها - الشيخ - حفظه الله - لمن بانت زوجته البينونة الكبرى .
8- دائما ما يسمع الشيخ في دروسه وهو يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم .
9- كثير الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم جدا في دروسه .
10- الوصية بالتقوى يكررها على مسامع طلابه في كلماته ومواعظه ، بل حتى لغيرهم بقوله : " اتقوا الله " " عليكم بتقوى الله " " الوصية الوصية التقوى " . قلت : هذه عشرة كاملة من الكلمات التي أسمعها بكثرة من سماحته - حفظه الله - وما أوردتها هاهنا إلا لنعرف أن هذا . الإمام الرباني - ختم الله بالصالح من الأعمال - ما هو إلا بقية السلف في جميع هديه وسمته ودله زاده الله عزا وتوفيقا .
أيها الإخوة، اعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله، وشر الأمور محدثتها، وكل محدثة - يعني: في الدين - بدعة، وكل بدعة ضلالة، فعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ومَن شذَّ شذَّ في النار .
أيها الإخوة، أكثروا من الصلاة والسلام على نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - امتثالاً لأمر الله ووفاءً بحق رسول الله وابتغاءً لثواب الله عزَّ وجل؛ فإن مَن صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهراً وباطناً، اللهم توفنا على ملته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اسقنا من حوضه، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي أفضل أتباع المرسلين، اللهم ارضَ عن الصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارضَ عنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم مَن أراد بالمسلمين كيداً فاجعل كيده في نحره، وشتِّت شمله، وفرِّق جمعه، واهزم جنده، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين .